ترجمة: ياسر شعبان
رفضت مصطلح النسوية رغم أنهم يعتبرونها من روادها وكتبت لأجل المستقبل وتخليد ذكرى مذابح الأرمن..
زابيل يسايان.. قلب أرمينيا
“مدركون تمامًا أننا في خضم حرب، ورغم ذلك مستمرون في حياتنا الهادئة الروتينية”
جينيفر مانوكيان
لم يَكُن الأدب بالنسبة لـ “زابيل يسايان” بمثابة رفاهية، طريقة للتفاخر، أو طريقة لتمضية الوقت. كان الأدب بالنسبة لها سلاحًا تُجيد استخدامه لمواجهة الظلم. وعبر حياتها، كانت في مواجهة دائمة مع الظلم.
فبوصفها شاهدة على كفاح النساء في نهاية العصر العثماني، وعلى الحالة المُزرية للأطفال اليتامى بعد مذابح أضنة في عام 1909 إلى معاناة الشعب الأرمني من التطهير العرقي، استخدمت زابيل، بإدراك واضح لهدفها، قوة قلمها للكشف عن كل ما سبق.
وبدأ ارتباطها بالبحث عن العدالة في فترة مُبكرة من حياتها، فحتى وهي طفلة، جاهدت لتفهم تعامل أقاربها بلا مبالاة مع الظلم الاجتماعي الذي ترى مظاهره في كل مكان حولها.
ولدت زابيل هوفهانيسيان في مساء 4 فبراير 1878، وقضت طفولتها وصباها في Scutari (today’s Üsküdar)، إحدى ضواحي كونستانتبول على الجانب الأسيوي من البسفور. ولقد عاشت بجوار بساتين سلحدار The Gardens of Silihdar، التي كانت نموذجًا للكوزموبوليتانية المميزة لهذا العصر.
ولقد كان لكثير من الأشياء تأثيرات متساوية وباقية على الكاتبة الصغيرة، من بينها: القباب الذهبية اللامعة للمسجد القريب، الحواة الغجر الذين أبهروها بسحرهم، صوت الرجال اليونانيين وهم ينشدون في احتفالهم بالعام الجديد، وكذلك بهجة الأطفال الأرمن الصغار في تبادل الرش بالماء خلال مهرجا فارتافارVartavar.
وهي طفلة، كانت نحيفة وعليلة. وكانت حياتها مهددة حتى بلوغ التاسعة، ولقد مثل اهتمام ومحبة أسرتها كلها ذكريات عذبة عن هذه الفترة. كما هو الحال خلال تلك الفترة، كان جميع أفراد أسرة يسانيان يعيشون في منزل واحد، وشمل ذلك جدتها “لوسيج” وكانوا ينادونها بـ “دودو”، وخالاتها الثلاث: “ييرانيج”، “يوجابر” و”ماكريج”، وأمها “أجافني” وأختها الصغرى “ماتيلدا” وأبيها “ميجورديتش”.
وللجميع، بدا الأب “ميجورديتش” شخصًا غير مسئول، دائم المغامرة في مجال العمل مما تسبب في تراكم الديون عليه والتأثير سلبيًا على رفاهية أسرته. لكن بالنسبة لابنته الكبرى، لم يكن هناك رجل أكثر حكمة أو أحق بالإعجاب منه.
ولقد اعترفت زابيل بما لوالدها من تأثير هائل ومستمر عليها.
فلقد كانت مبهورة بتفاؤله في مواجهة الشدائد، بإيمانه بحق كل شخص في أن يعيش حياة كريمة، دون نظر لعرقه، عقيدته أو طبقته الاجتماعية، كذلك كانت مُعجبة إعجابًا خاصًا بمعرفتهم الواسعة. فلقد كان يُتقن العديد من اللغات، من بينها الأرمينية والفرنسية والتركية والروسية وبعض الجورجية، ورحلاته عبر القوقاز والأناضول، ونهمه الشديد للقراءة والذي أسر ابنته وعزز بداخلها نوعًا من الوله الذي لا يخمد.
ولقد استمدت منه ولعها باللغة. فلم تكن قد تجاوزت الرابعة، عندما بدأت تعلم القراءة وهو يحملها في حضنه. فلقد اتسم بالصبر والعطف وهو يعلمها كيف تنطق الكلمات، ولم يفقدهما في مواجهة أسئلتها المعقدة كفتاة شابة. فلقد اعتقدت في طريقة أبيها في تفسير العالم لها، وشجعها لتحقق هدفها بأن تكون كاتبة، وأكدت “زابيل” على تعاطفه والذي لم يكن معروفًا بين الآباء في هذه الفترة الزمنية؛ والذين كانوا يتطلعون لتزويج بناتهم وليس لدعمهن في مجالات الدراسة والعمل.
وكل تلك الآمال لأجل ابنته، ساندها بدعمه العام لتحرير المرأة، وهو الموضوع الذي شجع زابيل على تناوله في كتابتها. ورغم أنه غالبًا ما تتم الإشارة لزابيل يسيان بأنها كاتبة نسوية، فلقد رفضت هذا الوصف، وأعلنت ذلك مباشرةً:
“لم أصبح نسوية أبدًا. ولقد واجهت هذه القضايا بنفسي، لكنني لم أهتم مطلقًا بجميع المشكلات المتغلغلة في المجتمع المحيط بي؛ من عنصرية ونفاق وتفكير لا أخلاقي، والتي يحاصرني بها. صحيح أنني كثيرًا ما اضطررت النضال ضد كل هذا، لكن ذلك النضال كان داخلي الحافز وقويًا ودائمًا مكللًا بالنصر، لأنني لم أبتعد قيد أنملة عن المواقف التي كتبت عنها.”
هنا تضع زابيل الخط الفاصل بين الكتابة عن النساء وبين الكتابة للدفاع عن قضية النسوية؛ وهو العنصر الذي أصرت على عدم وجوده في كتابتها مطلقًا. وبالرغم من جهود والدها ليغرس بداخلها الاهتمام بالقضية الكبرى، فلقد ركزت اهتمامها على حقوق النساء بما لها من تأثير مباشر عليها. وكنوع من التدريب على الكتابة، اعتاد ميجورديتش أن يكلف ابنته بتلخيص رؤاه حول تحرير المرأة كتابةً، ومن بين أطروحاته الرئيسة أن المساواة من الممكن تحقيقها فقط عندما تحصل الفتيات على نفس الفرصة التي يحصل عليها نظرائهن من الذكور لاستكمال تعليمهن بعد المرحلة الابتدائية.
ورغم أنه ليس لديه وسيلة لشرعنة هذا النوع من التغيير ليتم تطبيقه على نطاق واسع، فلقد قام بواجبه للتأكد أن ابنته قد تلقت تعليمًا جيدًا.
وبواسطة الإشراف على قراءتها ومناقشتها فيما تقرأ، كان والدها بمثابة مصدرها الوحيد لتحصيل العلم والمعرفة حتى سن التاسعة، عندما بدأت تدرس الكلاسيكيات الأرمينية تحت إشراف قس سابق، كانت تدعوه بـ “جاراباد أجها”. ومن عاداته أنه كان يخبط المنضدة بالمسطرة في إيقاع منتظم، وكان يعلم الفتاة الصغيرة أن تقرأ النصوص الدينية بصوت مرتفع مع الحرص على سلامة النطق ومخارج الألفاظ. وكانت مفتونة بالشعر الموجود في مزامير وصلوات بعينها، وبما للغتها من هيبة وجلال، ورغم ذلك فلقد ذكرت في كتابتها عن تلك المرحلة وما تلاها، أنها لم تكن تشعر بأي ميل تجاه الدين.
في عام 1888، وهي في العاشرة، التحقت بمدرسة الصليب المقدس، مدرسة أرمينية مجاورة لمحل إقامتها، حيث تزايد اهتمامها باللغة والأدب. وعن تلك الفترة كتبت أنها خلال السنوات الأولى القليلة بهذه المدرسة كانت دائمًا من أسوأ الطلاب في مادة الكتابة، لأنها كانت ترفض الكتابة وفقًا للأسلوب الرومانسي الذي كان مُهيمنًا على الأدب الأرميني في هذا الوقت. فكانت بالكاد تكتب ثلاثة أو أربعة سطور حسب القواعد المطلوبة وكانت تسخر من الطلاب الذي يحصلون على درجات مرتفعة دون اهتمام بالحفاظ على أصالة وسلامة لغتهم الأدبية.
وفي عامها الثالث بالمدرسة، بدأ رفضها هذا ينضج ويتبلور، وبدت أكثر جدية في التزامها بالدراسة خاصة بمقررات الكتابة. وكان معلمها الأرميني “ميلكون جورديجيان”، وكان معروفًا ككاتب باسم “هرانت”، أول من لاحظ استعدادها لأن تصبح كاتبة. كان جارديجيان نفسه كاتبًا وله مشاركات متعددة في المطبوعات الأرمينية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكنه كان ناقدًا بارعًا للنزعة العاطفية والميل للهو المنتشرين في الكتابات الأرمينية في كونستانتبول خلال هذه الفترة.
ووجد في كتابة “زابيل” الإخلاص والبساطة وموقفًا مقاومًا مشابهًا لموقفه تجاه تلك الظواهر، واعتبر هذا أمرًا واعدًا.
وفي دروس الأدب الأرميني، كان “جورديجيان” يطرح على طلابه الصغار أفكارًا حول الظلم وغياب العدالة. وكوافد حديثًا إلى كونستانتنبول من الأقاليم الريفية، اهتم بأن يطلع طلابه على ما تعرض له الأرمن من قهر في الأناضول (غرب أرمينيا). واقترح عليهم روايات مثل (المُغفل THE FOOL) و(دافيد بك DAVID BEK) للروائي الأرميني (رافي Raffi)، لتساعدهما في الانتباه إلى ميزة التربية الحضرية، وذلك حتى يصبحوا قادرين على التعاطف مع نضال نظرائهم في المناطق الريفية، وذلك بهدف تنمية وعي وطني يتجاوز التقسيم بين أرمن الحضر والريف.
وكان لمثل هذه المشكلات أثر على وعي “زابيل” لدرجة أنها خططت لمرحلة ما بعد التخرج أن تغادر كونستانتبول لتستقر في إحدى القرى وذلك لتشارك أبناء وطنها من الأرمن معاناتهم، والقيام بدور في تشكيل مستقبل الوطن.ففي مرحلة المراهقة، احتفت بالحياة في المقاطعات الريفية وتعاملت مع التجربة الأرمينية الحضرية بوصفها تجربة غير أصيلة. ورغم استمرار اهتمامها بمثل هذه الأفكار، فإن حماسها للانتقال للأناضول قد تراجع بعد نقاش مع طبيب قادم من هذه المقاطعات الريفية. فلقد اجترح تصوراتها المثالية حول التضامن الوطني، فلقد شدد عليها الطبيب ألا تنسى أن تحمل معها صندوقًا من الأمشاط، لأن علاج القمل مازال حاجة ماسة في هذه القرى.
ولم تتحدد ملامح خططها للانتقال للريف، لكن بعد الانتهاء من دراستها في مدرسة الصليب المقدس في عام 1892، لم تتوقف عن تنمية هذا الاهتمام بالاقتراب أكثر من القضية الوطنية. ففي مساء كل يوم سبت، كانت تذهب إلى صالون مدام ماتكيان، حيث كانت تلتقي قيادات الحركات الثورية، مثل أربريار أربريان، ليفون باشليان، أرشاج شوبانيان، والرسام ديركان يسايان؛ والذي ستتزوجه لاحقًا، بين آخرين كانوا يجتمعون لمناقشة الأدب والتعليم والسياسة. وعن تلك المرحلة يذكر “يسايان” أنها لم تنطق بكلمة واحدة طوال تلك اللقاءات، لكن مجرد حضورها، أتاح لها فرصة نادرة للإطلاع على كواليس عمل الحركة الوطنية، وتدخل إلى دوائر الثقافة والفكر والأرمينية لهذه الفترة.
وتنوعت قراءات “زابيل” خلال هذه الفترة، بالأرمينية والفرنسية، وكذلك مارست الكتابة بنفس الشغف. وبمجرد أن وجدت في نفسها الشجاعة لتقرر نشر كتابتها، وجدت الدعم من الكُتاب والمفكرين الذين التقت بهم في صالون مدام ماتاكيان. ونشرت أولى أعمالها في عام 1895 في جريدة أرشاج شوبانيان الأدبية، وهما قصيدة (غنائية لليل) وقصتان: (الفتاة العمياء) و(أرواح نسائية)، وتذكر (زابيل) أن تلك الأعمال جذبت الانتباه لها والاحتفاء بها.
ورغم أنها كتبت محتفية بشعر الرثاء للشاعر “بيدروس توريان (دوريان)” بالإضافة لاهتمامها بالروايات التي استبقت النظريات النسوية للروائية الأرمينية (صوروفي دوساب)، نأت “زابيل” بنفسها عن النزعة الرومانسية لأسلافها، والنزعة الوطنية لمعاصريها. وانطلاقًا من هذه الفترة هيمنت على كتابتها مشاعر الكراهية للنفاق والظلم والتناقضات التي تراها في المجتمع المحيط بها. ولقد شعرت بخيبة الأمل عندما سمعت أحد الكتاب المدافعين عن حقوق النساء في شتى الصحف والمجلات، عندما شكك في أخلاق صحفية شابة كانت تعمل في مناطق قريبة برفقة مجموعة من الذكور. ولقد وجدت “زابيل” متنفسًا لغضبها في الكتابة، وحاولت أن تستخدمها في فضح النفاق الذي تمقته.
واستكملت “زابيل” في باريس ما بدأته في كونستانتبول من عمل في مجال الأدب. وفي ظل القهر السياسي والمذابح ضد الأرمن، خاف والد “زابيل” عليها، خاصة في ظِل ارتباطها بأعضاء الحركات الوطنية. وكان اعتقال الكُتاب والمفكرين قد بدأ في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى فرار كثير من الشخصيات التي قابلتها في صالون مدام ماتاكيان من كونستانتبول. ورتب لها والدها أن تكمل دراستها في السوربون وأن تعمل كمساعد محرر في القاموس الأرميني (أرميني- فرنسي) والذي صدر عام 1900.
وانتقلت “زابيل” إلى باريس في ديسمبر 1895 على متن قارب بخاري فرنسي. وعند عودتها إلى كونستانتبول بعد سبعة أعوام، تعرضت حياتها لتغير جذري: تزوجت وأنجبت طفلين، وكذلك نجحت في أن تصبح كاتبة مرموقة في الأدب الأرميني الغربي. ورغم تنوع كتاباتها في المراحل اللاحقة من حياتها، ظلّ لطفولتها أثر بارز.
وخلال مرحلة التطهير الكبرى، تعرضت للاتهام بالانتماء للحركات “الوطنية” وتم اعتقالها في عام 1937. ولقد ماتت في ظروف غامضة، وهناك أقاويل بأنه تم إغراقها حتى الموت في المنفى، وغالبًا في سيبريا، حوالي عام 1943.
- جينيفر مانوكيان: متخصصة في الأدب الأرميني الغربي بجامعة كولومبيا. وترجمت العديد من أعمال “زابيل يسايان” آخرها مذكراتها (بساتين سلحدار).
- مجلة: THE ARMENITE – APR 14, 2014